معركة الجامعات

بقلم : عبد اللطيف العبوبي

في 15 غشت 2016 أصدر “معهد شنغهاي” المستقل طبعته الأخيرة لأفضل 500 جامعة في العالم. و كما كان متوقعا، تربعت على رأس القائمة نفس الجامعات الأنجلوساكسونية التي تتبادل (تقريبا) المراتب ذاتها منذ إنشاء التصنيف سنة 2003. أما أول جامعة فرنسية، فظهرت في الصف 1/39، في حين تراجعت الجامعات الإيطالية و الإسبانية كلها إلى الرتبة ما بعد 1/165… و يكشف التصنيف عن صعود 10 جامعات أسيوية (فئة 1/100) بإمكانيات هائلة، لاسيما الصينية التي أحدثت إختراقا باهرا (1/58 ) يُنذر بحتمية توفقها على جنيساتها الأمريكية في مجال المنشورات العلمية. على الصعيد الأفريقي برزت 5 جامعات : 4 من جنوب أفريقيا، أحسنها رُتبت في 2/260، و واحدة (1) من مصر في ذيل الترتيب 4/409. في منطقة الشرق العربي : تصدرت إسرائيل اللائحة ب 6 جامعات، جاءت الأولى في المركز 1/67، تلتها السعودية ب 4 مؤسسات (حققت الأولى درجة مشرفة : 1/159) ثم بجامعة واحدة (1) لكل من إيران (2/288) و تركيا (4/424)…

***

في هذا المقال، سأقوم بقراءة تحليلية نقدية لهذا التصنيف الذي تُثار حوله كل سنة ضجة إعلامية ضخمة، و كذا لتأثيراته في عملية صنع القرار. ثم أنتقل إلى تفكيك أسرار التقدم المبهر لجامعات الصين، و مقارنتها بأمريكا، فأوروبا التي تحاول استحداث بدائل بمقاييس و غايات مغايرة. و أخيرا سأتطرق إلى تموقع المغرب ضمن مشهد جامعي دولي يتسم  بشدة المنافسة، و القدرة على الابتكار و التكيف مع متغيرات العولمة المتسارعة  لضمان البقاء ضمن طلائع الأمم…

***

أولا، يجب التذكير بأن ما يُعتد به في “تصنيف شنغهاي” هو العلوم الحقة و الطب، مما يعني أن قسطا وافرا من الإنتاج الجامعي لا يُؤخذ به، مثل العلوم القانونية و الإنسانيات… و من بين المعايير التي يعتمدها: – معدل الإصدرات في مجلات “الطبيعة و العلوم” الذائعة الصيت- كثرة الرجوع أو الإستشهاد بالأبحاث- عدد المنتمين للجامعة الفائزين بجوائز “نوبل” أو “فيلد”، إلخ. و من هنا التموقع الجيد لمؤسسات مختصة في العلوم مثل : “بيير و ماري كوري” (1-39)، أو “المدرسة العليا للأساتذة-باريس” (1/87 ). قد يقال إن مدارس “البوليتكنيك ” (14 /300) هي أيضا علمية. و هذا صحيح, لكنها ليست “بحثية” و لأن من مُحددات التقييم كذلك : أعداد الطلبة و الأساتذة و المنشورات… و هي مقاييس تدل على احتساب جزء ضئيل فقط من وظائف الجامعة. فلا وجود لمعيار بخصوص جودة التدريس التي تهم الطلبة أكثر من اهتمامهم بكمية أبحاث و جوائز الأساتذة، لاسيما و أن جلهم يتوقف عند مستوى الماستر. و لا تُقْبل سوى المقالات المكتوبة بالانجليزية، و في الدوريات المرجعية الأنجلوساكسونية، و هي تميل إلى الإستشهاد بمثيلاتها، مما يخلق دائرة مغلقة تجعل من إصدار بالغ الأهمية بغير الإنجليزية غير موجود.  في حالة فرنسا،هناك عوامل بنيوية (أملتها ضرورات التمويل) تنزع الصفة الجامعية عن عدد كبير من المختبرات و المعاهد البحثية… و في مؤشر “شنغهاي” يعتبر المنتمي للمراكز البحثية أقل قيمة من الباحث الجامعي…  كما أن تقسيم جامعاتها (إبان فترة “إدغار فور”) إلى كيانات متخصصة (أداب، قانون، علوم، الخ)، يجعل من الصعب بروز بعضها في التصنيف… لأن المعيار الأساسي المُعتمد يبقى “الحقول المعرفية العلمية”…

و لتجاوز نواقص “معهد شنغهاي” اسْتُحدثت  تصنيفات بديلة، مثل “تصنيف التايمز” الذي يعتمد على التقييم الداخلي للجامعات و لكافة الحقول المعرفية… مما يتيح للطلاب معرفة أعمق بالأنظمة البيداغوجية و التخصصات، و يساعدهم في الاختيار… و من هذا الجانب يُعد النظام الألماني أفضل من نظيره الفرنسي …

***

أما الظروف التي أُنشئ فيها “تصنيف شنغهاي” فتعود إلى 2003، أي بداية صعود الصين كقوة اقتصادية و ما رافقها من إصلاحات كبرى. كان الصينيون يعتقدون، من أجل التحول إلى قوة اقتصادية، بوجوب التوفر على قاعدة علمية و تكنولوجية خلاقة. عند دراسة النمط الأمريكي، اتضح لهم أن تفوقه يكمن في ربطه علاقات بين المختبرات و الجامعات و الإدارات أو الشركات التي تطلب و تمول الأبحاث. و هو نظام كان غير معمول به في الصين وقتذاك. إذ كانت تتبنى اقتصادا مُؤمما و نسقا جامعيا بيروقراطيا ( يعود إلى ال 60 )، بحيث كان الفصل فيه صارما بين الأكاديميات المُشتغلة بالبحث و الجامعات المُكلفة بالتدريس.

 من بين أهداف استحداث”تصنيف شنغهاي” : إظهار أن المنطومة الصينية لم تعد مُقولبة على النموذج السوفياتي، و إلزامها بتطوير البحث داخل الجامعات لا خارجها، و تشجيع الأساتذة على النشر في المجلات الرصينة البارزة و عدم الإكتفاء بالجانب البيداغوجي (من هنا أهمية الإصدارات في الترتيب). بعبارة أدق، كان الغرض الحقيقي من وراء إحداث التصنيف هو نقد النموذج الصيني السائد آنذاك مع إبراز النموذج المُحتذى (أي الأمريكي)، بإعطاء الأهمية لكل المواصفات المُكونة له.  

بعد اعتماد التصنيف، جرى تنميط الجامعات على هذا المنوال، عبر إجراءات شتى : منها ،مثلا، خلق “مراكز التميز”، و منح قروض تكميلية للجامعات كي تتطابق مع هذا النموذج الدولي و تنصهر فيه. و من هنا تثمين العلوم الحقة و العناية بالباحثين الذين ينشرون بوفرة بتقديمهم عدة تسهيلات (جداول تدريس حرة، تعويضات، علاوات البحث، الخ). و هي ذاتها التدابير التي طُبقت في فرنسا و ألمانيا  ابتداء من 2005 ، ثم في اليابان، فبقية دول آسيا، إلخ. اليوم، الجميع يتأمرك ( مع تباطئ، هنا و هناك، مرتبط بسياقات معينة). و سياسة تقليد الجار كانت دوما حاضرة، لدرجة أن الأنظمة الجامعية تشكلت بمقارنة بعضها البعض. في القرن 19 م بُني التعليم العالي الألماني تقابُلا مع نظيره الفرنسي.  في ما بعد، شرعت فرنسا في النهل من النموذج الألماني. و حتى بعد الحرب العالمية الثانية كانت دول أوروبا مفتونة بأمريكا و تبعث علماءها للتدريب في مختبراتها و نقْل نُظُمها و مناهج التدريس بها. إذن، انتقال النماذج كان موجودا باستمرار، لكن ما تغير اليوم هو تبنيه باسم “اقتصاد المعرفة” و بدعوى التنافسية لتحقيق منافع مالية، إذ صار العلم مصدرا للتشغيل و الاغتناء.

***

حين نتفحص ترتيب قائمة “شنغهاي” حسب الدول ( 1– أمريكا: ب 146 جامعة. -2– الصين : ب 44. و 3- ألمانيا ب 39)، نجده يعكس نفس التراتبية تقريبا حسب الناتج الداخلي الخام (- 1- أمريكا، 2- الصين، 3– ألمانيا). و معناه أن التصنيف يُبرز كذلك قوة اقتصادات الدول : فكلما توفرت الثروة كلما تضاعفت التمويلات الموجهة لتعزيز التعليم العالي. و يتبين أن الإستثمار في البحث العلمي ليس في مُكنة و أولويات الدول الفقيرة. و ما تصنيف الجامعات الأفريقية و السعودية إلا دليل على أهمية العامل المالي.  لكن التقاليد الثقافية تلعب دورا فاصلا. فأمريكا بقيت دوما مرتبطة بجامعاتها. و حتى قبل أن تصبح القوة المسيطرة، كان كبار الراعين و المتبرعين يؤسسون الجامعات  في القرن 19 م. الشيئ ذاته تقريبا ينطبق على ألمانيا. الإرث الثقافي يفسر أيضا حصول اليابان على مراتب متقدمة. فرنسا اعتُبرت دوما بلدا منتجا للأفكار، لكنها لم تكن تولي كامل مجهوداتها لجامعاتها، إذ يمر البحث فيها عبر مؤسسات أخرى كالمراكز الوطنية للبحث العلمي و المدارس الكبرى المُفضلة من حيث الإعتمادات المالية. و هي، بخلاف الجامعات، ليس لها توجه دولي.  

إذن، هناك صلة وطيدة بين المصادر التمويلية و الدينامية الاقتصادية من جهة، و تصنيف الجامعات من جهة أخرى؛ غير أن الفارق الثقافي يبقى حاسما.

***

 I -حالة أمريكا.

لماذا تتصدر الجامعات الأمريكية تصنيف “شنغهاي” ؟ و هل تلك المحتلة للمراتب المتقدمة تعكس الواقع،أم نحن بصدد تمثل نموذج وهمي ؟ يمكن القول ألا وجود لنموذج أمريكي، بل هو مجرد أسطورة. فالتعليم العالي هناك ينقسم إلى عام و خاص. جل الجامعات المستحوذة على المراكز الأمامية، مُمولة من المصادر الخاصة و قلة قليلة تمثل الجامعات الحكومية، مثل “بيركلي”. علما أن غالبية الكليات، (المُسماة “كوليج”، حوالي 3000 )، لا تقوم بالبحث العلمي، بل بتكوين يد عاملة و أطر متوسطة (باك+2 او باك +4). أما الفئة التي يتم إبراز تفوقها فتُقدر ما بين 25 و 30 مؤسسة من أصل أزيد من 2000. ثم إنها جامعات تُوُفر لها الكثير من المزايا. فقد راكمت، بحكم تأسيسها في القرنين 18 م و 19 م ثروات معتبرة مستجلبة من المنح و الهبات و العقود الطويلة الأمد المُبرمة مع مختلف المتكفلين و الراعين و الشركات، علاوة على الدعم المالي للطلبة القدامى المتحكمين في الإقتصاد و الإدارات… و هذه التقاليد الحميدة لا يمكن تعميمها على مجموع الجامعات الأمريكية (أغلبها ذات موارد مالية محدودة)، فبالأحرى على كل جامعات العالم، بما فيها البريطانية : لم “كامبريدج” هي الأولى ؟ لأنها تشبه تلك الجامعات الأمريكية. فتاريخ تأسيسها الذي يعود إلى القرون الوسطى، يجعلها تتوفر على ثروة عقارية مهمة و مصادر تمويل مرتبطة بتكوينها للنخب الإنجليزية التي بدورها تمنحها الأموال، إلخ. إنه طراز فريد، لا مُمَاثل له في أوروبا، و محاولة تقليده أشبه بإقامة سباق بين سيارة “الفورميلا واحد” مع دراجة “هوائية جبلية”   

إذن، عوض التيه في عقد مقارنات، يتعين فهم كيفية اشتغال الجامعات الأمريكية التي تتنافس لجلب صفوة العقول في إطار ما يسمى “السوق الأكاديمي” (معمول به في ألمانيا على نطاق ضيق). إجراء يقضي بمنح الأستاذ إمكانية تدبير مساره عبر تغيير الجامعة. إذا رُفض طلبه، طالب برفع مرتبه. إلا أنه تدبير لا يخص سوى أقلية صغيرة من الأساتذة، فئة المرسمين. ذلك أن الغالبية الساحقة من هيئة التدريس تَتَشكلُ من غير الدائمين، أي المُشتغلين بالتعاقد لمدد محددة زمنيا. و بما أن أكثرية العقود لا تُجَدد، فإنهم يُضطرون إلى تغيير المهنة. نتصرف وكأننا نحكم على عالم “الشو بزنيس” انطلاقا من ال” 50 الأوائل”. طبعا، هذا نظام براق يغري كل الحالمين بتحقيق أجور خيالية. متناسين أن الأمر لا يمس إلا نسبة ضئيلة من الأساتذة و تخصصات ناذرة تمنحهم شهرة دولية( مثل المعلوميات و الإقتصاد و قانون الأعمال…)، و تمكنهم من مراكمة موارد هائلة من خلال تقديم الإستشارات أو الخبرات للشركات الكبرى. و هي بالضبط المجالات التي تبحث عن الحاصلين على “جوائز نوبل” لاستغلال حضورها داخل الجامعة كعلامة تجارية. و الحقيقة ان الأستاذ المعني لا ينال “النوبل” إلا في عمر متأخر (50 / 60 سنة) أي بعد إكمال مساره الأكاديمي (لم يعد له ما يعطيه)، و لا يدرس في الفصول الاولى حيث ترتفع الكثافة الطلابية. إذن، المستفيد من وجود “مُنَوْبَل” في الجامعة، ليس سوى “تصنيف شنغهاي”، الذي يلعب على معيار الجاذبية.

و مقياس الجاذبية لا يتقاطع مع اهتمامات عموم الطلبة، أي المسجلين في السلك الأول. فلا صلة لمشاغلهم بتواجد “مُنوبل”، في جامعتهم. و احتمال لقائهم به ضئيل للغاية. ربما يكون تواجده”عامل تحفيز”، لكن فقط للباحثين المنخرطين في السلك الثالث (أقل من 10 % من إجمالي طلبة العالم). و لا وزن له، أصلا، بالنسبة للجامعات التي لا تهيئ الدكتوراه،. كما أن تأثيره على حركية الطلاب الدولية جد هزيل، بالرغم من تواصل قوة جاذبية أمريكا.

في دراسة دولية، عممتها مؤخرا مؤسسة “كامبيس فرانس”، تبين أن 12% فقط من الطلبة يعرفون تصنيف “شنغهاي” و 9% منهم يستخدمونه و 75% يختارون الوجهة أولا، و 14 % يهتمون بشهرة الجامعة. اتضح كذلك بأن الجانب اللغوي هو ما يُشغل بالهم قبل كل شيئ. و قد يفضلون الذهاب الى “إرلندا”، مثلا، لإثقان الانجليزية بسبب انخفاض تكلفة المعيشة، فحسب. إذن، ما يشغلهم هو العلاقة بين الفاعلية و التكلفة أكثر من تصنيف ” شنغهاي”.

***

II – حالة الصين.

 

في نشرة ” شنغهاي” لعام 2004 لا تظهر إلا جامعة صينية واحدة. أما في 2016  فارتفع العدد إلى 19 جامعة. كيف يُفسر هذا التطور المذهل، في ظرف 12 سنة ؟ يعزو الخبراء تقدم الصين الخارق في الترتيب الدولي لى مجموعة من الأسباب يمكن اختصارها كتالي :

1 – أخذها بالاعتبار بعض الضوابط المهملة سابقا في “تصنيف شنعهاي”.

2 – التأثير القوي للجامعات الأمريكية الذي يرجع بدوره إلى كثافة التبادل بين الدولتين. فكثير من الأساتذة الصينين أمضوا تكوينهم بأمريكا. و إتاحة الطلاب حق متابعة مشوارهم الجامعي في البلدان الأجنبية، خاصة أمريكا، لدرجة باتوا يشكلون فيها أعلى نسبة من حجم الطلبة الأجانب. و العكس صحيح، إذ تستقبل الصين كثيرا من الطلبة الأمريكيين لنفس الغرض. و قد أمسى الأمر تقليدا. و بالنظر لمكانة الصين اعتُبرت لغتها لغة استراتيجية بحيث تقرر تعميمها في الثانوي و العالي الأمريكي.

3 – سياسة الإنفتاح : باستثناء بعض الطابوهات (انتقاد الحزب الشيوعي، الثورة الثقافية، الخ)، تم توسيع مجال الحريات، خلافا لما قد يُتخيل. و تتمتع الجامعات باستقلالية فعلية و باستطاعتها تدبير ميزانيتها و عقد شراكات و البحث عن تمويلات خاصة أو عطايا أو منح. و هناك  تنامي مطرد للبرامج البحثية الممولة من طرف صناديق استثمارية، إلخ. و كلها تدابير تلقى الترحيب الكامل من الهيئات الجامعية…

4 – إرادة الحكومة في توجيه التعليم العالى نحو كل ما هو عملي، تطبيقي. و حاجة الشركات الصينية للمزيد من الدعم التكنولوجي عبر الجامعيين، خاصة في ميدان الابتكار التقني. و لهذا تتلقى الجامعات المزيد من الهبات و الدعم من الشركات و رجال الأعمال … مما يلزم الباحثين على تحويل جانب من الأبحاث النظرية إلى منتوجات لسد احتياجات السوق. و في السنين الأخيرة، أسفر التعاون بين الجامعات و الشركات على نتائج إيجابية. و هي سياسة باتت ضرورة حيوية، لأن التحدي المتعاظم للصين هو ضمان ولوج حملة الشواهد المعطلين إلى سوق الشغل. و لتبديد المخاوف من احتمال خضوع الجامعة لإغراءات و مراقبة الشركات، يتم باستمرار تطوير هذه “العلاقة” و حصرها في برامج مشتركة للتعاون تخص بعض الشعب و التخصصات و المقاولات، الخ.

5 – تزايد الجامعات الخاصة الممولة من الشركات : تختص في تكوين المهندسين و في ميادين أخرى، جد محددة.

***

و يوجد في الصين تصنيف فرعي موجه لتقييم النسق الوطني. و يميز بين ثلاثة فئات : الفئة 1 : تضم الجامعات الكبرى (متعددة التخصصات). و الفئة 2 : تضم جامعات محدودة التخصصات. والفئة 3 : تضم مدارس التكوين. و من بين معاييره: مدى الإنخراط الجهوي.

و أهم ما يمكن ملاحظته على المنظومة الصينية هو تراتبيتها الشديدة المرتبطة أساسا بالتنافسية (لا تراعي النزعة الأكاديمية). مما يفسر تواجد مستويات جامعية مختلفة (على غرار أمريكا) و قطاعات أكثر استراتيجية من أخرى تحددها الدولة، أو الشركات. ثمة عناصر خارجية تتدخل في الجامعة، بالإضافة إلى الإنتقاء الإجتماعي، المتمثل في وجوب اجتياز مبارات صعبة. اذ تبقى النتائج المدرسية حاسمة في ولوج جامعة أو أخرى، و الإنتقال من جهة إلى أخرى. ناهيك عن تنامي المعاهد التحضيرية الخاصة بامتحانات ولوج الجامعات. كل هذا يخلق نوعا من العدوى لممارسات ليست دوما في صالح التكوين الفكري الجيد والتقييم الصحيح. اذ يصير هاجس الكل هو اكتساب القدرة على الإستعداد لإجتياز الامتحان بأي ثمن، الخ.

إن التطورات الحالية في الصين تتجه نحو تعميق اللامساواة و مبدأ السيطرة. فالطلبة الذين يتجهون إلى الخارج هم من توفرت لهم الإمكانيات المادية :إما يتحدرون من عائلات ميسورة أو يقترضون من الأبناك. و حفنة صغيرة تستفيد من منح الدولة. إنها سياسة طبقية تنحاز لفئات اجتماعية معينة على حساب أخرى، ناهيك عن المقربين من السلطة، الذين يحضون بامتيازات غير قانونية و استشراء الفساد و الرشوة في بعض المجالات. و هي طبعا مشاكل متواجدة في كافة أنحاء المعمور، تستدعي لمكافحتها، المزيد من النضال السياسي.

***

-IIIحالة أوروبا :

 

في 2014 أطلقت أوروبا موقع “يو-/مولتي/رانك” كردة فعل على تصنيف “شنغهاي”. و هو وسيلة لتقييم أداء و نجاعة أزيد من 1200 جامعة (1850 كلية و 7500 برنامج في أكثر من 80 دولة). تقوم فلسلفة التصنيف على التموقع من منظار الطالب و الأستاذ. و تعود فكرة تصميمه إلى 2008 حين أجابت “المفوضية الأوربية”(تحت رئاسة فرنسا) على طلب أعضاء “الإتحاد الأوربي” الداعية إلى خلق تصنيف مغاير لما هو معروف، يأخذ بالاعتبار مقاييس أخرى تَخُص الطلاب و الأساتذة.

يرتكز تصنيف “يو-/مولتي/رانك” حول 5 محاور : البحث العلمي، جودة التدريس، البعد الدولي، نقل المعرفة، و الانخراط الجهوي لمؤسسات التعليم العالي. و قد بدأ في نشر نتائجه منذ 2014 و يُسَير من طرف منظمات مستقلة بتمويل من “الإتحاد الأوربي” ينتهي في 2017 . و عكس التصنيفات التقليدية فهو لا يقيم تراتبية بين الجامعات بل نظاما تنقيطيا لها (منA  إلى E). و يترك لمستعمليه مسؤولية تقييم مدى ملائمة المعايير المقترحة لرغباتهم. فَهُمْ يبحثون بأنفسهم من خلال موقعه “التفاعلي على الانترنيت” و وفقا لقواعد بحثهم هُمْ. و قد تم نشر تقييمين “2014 و 2015 “يؤكدان أنها آلية تساعد على تغيير فهم مغاير للتصنيفات السائدة بإبراز ليس الجامعة فحسب، و لكن أيضا محيطها من شركات و إقليم، و جودة التدريس و القدرة على إيجاد شغل بعد نهاية الدراسة، الخ.

يبدو هذا التقييم “المتعدد الأبعاد” أكثر تعقيدا، لكنه ربما الأقرب إلى الحقيقة. نقطة ضعفه تكمن في عدم انخراطه ضمن حلبة السباق نحو الفعالية كما هو شأن “تصنيف شنغهاي” الذي يستمد قوته من اختزاليته البالغة و سهولة مقروئيته، ناتجة من إقامته تراتبية للمؤسسات. فهو يضع لكل مؤسسة تنقيطأ يجعله يندرج في هوس الأرقام الطاغي على كافة أنشطة الحياة اليومية من الإقتصاد إلى الرياضة و مرورا بالجامعة و هو ما ينتظره الطلبة…

غاية “يو/مولتي/رانك” ليس التباري مع التصنيفات الموجودة التي تضع التنافسية في المقام الأول. بل اقتراح تصور مغاير، شامل، يضم كافة العروض الجامعية العالمية، لا يعتمد كُليا على كمية الإصدارات أو الأبحاث، و لكن أيضا على جودة و أصالة العروض المقدمة الغير معتمدة في القوائم الأكثر تداولا إعلاميا. إنه بمثابة “برنامج” لمساعدة الطلاب على اختيار دراساتهم، و إعطاء المؤسسات إمكانية تحديد مكامن القوة و الضعف عندها من خلال المقارنة في مجالات شتى (5 محاور أساسية). يتعلق الأمر بمعرفة كيف تلبي جامعة ما تكوينا معينا، بأية طرق، و مدى تفاعلها مع المحيط الخارجي… إنها نظرة، حقا، براغماتية، قريبة للغاية من واقع ما يختاره الطلاب. نحن في منطق آخر: “منطق الاستعمال” و ليس “التنافسية”. ذلك أن مهمة الجامعة هي تكوين العدد الأكبر من الناس و المساعدة في إيجاد و شق طريقهم في الحياة، و ليس خلق أبطال أولمبيين…

***

في الجزء الثاني ترقبوا : (IV  – حالة المغرب)

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد